تعريف حضاري لعرف البادية
القضاء العرفي في سيناء
سبق المحاكم المدنية ويعمل به في المجتمعات العربية إلى الآن «القضاء العرفي».. حضارة البدو التي سبقت الحضارة
كثيرة هي القوانين المنظمة حاليا لمناحي الحياة كافة وارتبطت بكل تفاصيلها، وكثيرا ما نسمع ان هذا القانون غير منصف في بنوده أو متحامل على فئة دون اخرى، ويدفع هذا الاعتقاد بعض الناس الى اللجوء الى قوانين اخرى للفصل في قضاياهم. ورغم كل آليات التطور الحضاري، فان القانون العرفي يظل الملجأ الاكثر قربا للكثيرين في حالة عدم اقتناعهم بان القوانين المدنية منصفة لهم.
والقضاء العرفي أحكامه ملزمة تنفذها السلطة العليا في المجتمع من مشايخ القبائل والعشائر وكبار العائلات، والالزام مستمد من رضا واختيار افراد المجتمع ما تقضي به الاعراف من جزاء يوقع في حالة خروج طرف عليها، وهو مجموعة قواعد لم يطرحها قانونيون وبرلمانيون، لكنها محفوظة عن ظهر قلب، يلجأ اليها ابناء البادية لحل الخلافات والنزاعات التي تنشأ بينهم في مختلف القضايا.
واذا كان القانون المدني يحدد اختصاصات كل محكمة وكل قاض، ويستند الى بنود محددة ويقرر عقوبات لا يخرج عنها القضاة، فان القضاء العرفي قد سبق القانون المدني في ذلك وزاد عليه ان احكامه ملزمة، فالقضاة والمشرعون هم كبار مشايخ القبائل والعائلات، التي يذعن جميع الافراد لها بالولاء.
تتكون المحكمة العرفية بمختلف انواعها من ثلاث درجات، حيث يحكم قاضي الدرجة الاولى في الدعوى، فاذا اعترض على الحكم أحد الاطراف احيلت القضية الى القاضي الثاني الذي يختاره المتضرر من بين قضاة ثلاثة، فاذا حكم ولم يرض الطرف الآخر بحكمه احيلت القضية الى القاضي الثالث الذي يصبح حكمه نهائيا، وللمدعى عليه الحق في تحديد اسماء القضاة الذين يمثل امامهم بحسب الاختصاص.
وتشبه المحكمة العرفية بقضاتها الثلاثة المحاكم المدنية المعروفة بدرجاتها، فالمحكمة الابتدائية تصدر حكمها أولا، فاذا اعترض عليه الطرف الثاني يقوم بالاستئناف امام قاضي الاستئناف، فاذا لم يكن حكم الاستئناف مرضيا، تعرض القضية على محكمة النقض وهي آخر درجة في طريق التقاضي، حيث يأتي حكمها نهائيا.
لكل قاض اختصاصه
للقضاة العرفيين اسماء وألقاب بحسب اختصاصات كل منهم، فالذي ينظر في قضايا القتل والضرب يسمى «منقع الدم» وهو قاضي الجنايات في المحاكم المدنية وهو يختص بقص الضربات والجروح والاصابات المختلفة، التي تحدث نتيجة الاعتداء من طرف على آخر بالضرب سواء بالكرباج او الكف على الوجه او بالنعال او عصا او آلة حادة، ويؤدي الى اصابة الجسد بكدمات او جروح او اسالة دماء وينظر في قضايا القتل العمد والخطأ ايضا.
و«منقع الدم» تختص به قبيلة «بلى» من دون غيرها من القبائل في سيناء، ويقوم بنظر قضايا الدم بعد اجراء التحقيق الاولي فيها بمعرفة «الكبار» او «الملم» او «الضريبي» ولم يفصل فيها.
و«الكبار» هم رجال الصلح ويقصد بهم المختار او المنتخب من كبار رجال العائلة او العشيرة او القبيلة ممن لهم وضعهم الاجتماعي ويتصفون بالحكمة ورزانة العقل والقدرة على التأثير في افراد مجتمعهم بسابق خبرتهم في حل الخلافات.
اما «الملم» فهو اول من تلجأ اليه الاطراف المتنازعة، وبالتوجه اليه تبدأ الخطوة الاولى في اجراءات التقاضي، ولكل قبيلة ثلاثة رجال يطلق على واحدهم «الملم» او «راعي بيت» لعرض النزاع واسبابه والاتفاق على اجراءات حله. وفي الاحوال التي يكون فيها طرفا النزاع من قبيلتين مختلفتين، ولا يقبل اي منهما الجلوس عند «ملم» الطرف الآخر يقترح الوسطاء اللجوء الى «راعي بيت» من قبيلة اخرى، ويطلق عليه في هذه الحالة «خالي شهوة» لبعده عن شبهة الانحياز الى احد الاطراف.
وتحدد الجلسة عند «الملم» ويأتي الطرفان في الموعد «لتفتيش الكلام» اي معرفة اسباب النزاع، وبعد استماع «الملم» الى اقوال الخصوم وهو ما يطلق عليه «مدفون الحصى» يقول الملم للمدعى عليه «خط لك ثلاثة» اي حدد ثلاثة اسماء من القضاة المختصين بنظر مثل هذه الدعاوى، ويحدد الملم موعدا لجلسة الحكم قائلا: آجال الرجال 14 يوما» اي ان تحديد الجلسة خلال اسبوعين من جلسة «الملم».
وبعد تحديد الجلسة يصبح شاهدا على كل الاجراءات التي اتخذت في منزله فيقال «تم ربط الكلام عند راعي البيت».
ويأتي «الضريبي» كقاض مختص بنظر قضايا الاعتداء على العرض وحرمات البيوت وقضايا الوثاقة، وتعرض القضايا على «الضريبي» للتحقيق في الدعوى ثم الحكم فيها اذا ارتضى طرفا النزاع، وفي حالة رفضهما للحكم تحال الى الضريبي الثاني وفي حالة الرفض تحال الى الضريبي الثالث الذي يكون حكمه ملزما لهما.
وفي حالة الرفض تحال الى القاضي المختص مثل «الاحمدي» او «الزيادي» او «المنشد» وتحدد الجلسة خلال اسبوعين ويعتبر القاضي الضريبي بمثابة قاضي الاحالة في القضاء المدني، ويطلق عليه لفظ «كرسي المنشد» او «فراش المنشد» لكونه القاضي الذي يحدد ويقر احالة القضية الى المنشد من عدمه.
و«الاحمدي» يختص بنظر قضايا الاعتداء على حرمات البيوت وهي بيوت الشعر البدوية وغيرها لما لها من حرمة وحصانة، والبيت البدوي له حرماته من جوانبه الاربعة في حدود من 40 الى 60 خطوة، اما البيت المبني فحرمته عتبته ومدخله.
وهناك «العقبي» وهو قاضي النساء الذي يحكم فيما يتعلق بأمور المرأة من طلاق ومهر وتعدّ على العرض و«اهل الديار» وهم القضاة ينظرون في قضايا الحدود في الاراضي الزراعية والرعوية الموروثة واراضي الاسكان، و«اهل الفلاليح» ويندرجون تحت قضاة «اهل الديار» ويختصون بالفصل في النزاعات التي تنشأ حول الزراعة بجميع انواعها، واطلق عليهم الاسم لكونهم يحكمون في فلاحة الارض اي زراعتها.
و«اهل العريش» هم قضاة النخيل ويفصلون في الدعاوى التي تنشأ بسبب النخيل بين الافراد عندما يدعي أحد الافراد ملكيته لنخيل شخص آخر او الاعتداء بالاتلاف او القطع او التجميد.
و«قضاة اصحاب الحرف» وهو نوع مستحدث من القضاة فرضته ظروف تطور المجتمع ودخول حرف لم تكن معروفة في السوق التجاري، ويقوم هؤلاء القضاة بنظر القضايا التي تختص بحرفة معينة او النزاعات التي تنشأ بسببها، ويجلس اطراف النزاع لدى قاض من ابناء حرفتهم يكون ممن يتصفون برجاحة العقل والامانة والصدق.
اما «المنشد» او «المسعودي» فهو قاض يختص بالحكم في المسائل الشخصية الخطيرة كقطع الوجه، ومس الشرف والاهانة الشخصية، ويعرف المنشد بالمسعودي نسبة الى قبيلة المساعيد التي تختص بنظر هذا النوع من القضايا لعلاقتها الطيبة بسائر القبائل.
إجراءات التقاضي
تبدأ اجراءات التقاضي بالتأكد من وجود الطرفين، ثم يقوم المجني عليه بتسليم مبلغ «الرزقة» للقاضي، وهو المبلغ الذي يدفعه المدعي نظير قيام القاضي العرفي بمهمته، وبعدها يقص ما حدث له ويحدد اصاباته الظاهرة وغير الظاهرة التي يطلق عليها «غيبانية»، وفي حالة نكران الجاني لما رواه المجني عليه يقوم القاضي يتحليف المجني عليه اليمين على ان الجروح والاصابات التي ذكرها من فعل الجاني، فكلام صاحب الدم مصدق طبقا للمثل القائل «لا عرضا عليه شهود ولا دما عليه ورود» وفي حالة مبالغة المجني عليه في الاصابات، فان القاضي يراعي ذلك عند تثمينها.
اذا كانت الاصابة التي احدثها الجاني في المجني عليه قد حدثت من دون اثارة من المصاب فيتحمل الجاني جميع الغرامات والحقوق المادية، التي يحكم بها القاضي، واذا كانت الاصابة نتيجة استفزاز واثارة من المجني عليه للجاني يقوم الاخير بسرد الحجة واظهار الاسباب والدوافع التي أدت به الى ذلك امام القاضي الذي يحق له في هذه الحالة الاستعانة بشهود، وفي هذه الحالة يأتي حكم القاضي مخففا عند قص الاصابات، ويطلق على هذه العملية «القص والخص».
وفي حالة اصابة المجني عليه وتحديد القاضي للاصابات يقوم بتحويلها الى «مناقع الدم» لتقدير وتثمين الاصابات للاطراف حسبما يقرر القاضي السابق عليه. اما اذا ارتضى الطرفان حكم القاضي الاول الذي نظر القضية فيفصل فيها من دون ان تحال الى مناقع الدم.
الرزقة 1% من الحق
ليس هناك مبلغ محدد للرزقة التي يحصل عليها القاضي نظير عمله، وانما هناك نسبة ثابتة من الحق تعارف عليها القضاة وتقدر بواحد في المائة من الحق، ويرجع تقييم الحق المطلوب لخبرة وفراسة القاضي ويقوم امين الجلسة الذي يختاره القاضي من بين الحضور بكتابة وتسجيل وتقييم وتثمين الاصابات.
وفي حالة قبول الطرفين لحكم القاضي يتدخل الحاضرون لاقناع صاحب الحق بالتنازل عن جزء من الحق الذي أقر له قائلين «ودك تفوت إيش لله ورسوله؟» وغالبا ما يتنازل عن نصف المبلغ، ثم تبدأ الكرامات للحاضرين والوجهاء حتى يسقط المبلغ كله او اغلبه، وحتى لو سقط مبلغ الحق كله فان المجني عليه يشعر بالسعادة والرضا والانصاف الكامل، ويتداول الناس في احاديثهم الحق الذي حكم به القاضي، وتنتهي الجلسة بقراءة الفاتحة، ويصافح كل طرف الطرف الآخر.
الإبل كلاليب الرجال
«الإبل كلاليب الرجال» من الامثلة البدوية الشهيرة، وهو يعني ان توثيق الإبل يجبر صاحبها على الرضوخ للعدالة، فيجر رغم أنفه كما تجر الانعام العصية.
والإبل تجبر صاحبها على الرضوخ للعدالة لما لها من قيمة مادية كبيرة في المجتمع البدوي، وقد كانت الدية قبل الاسلام تقدر بمائة بعير مختلفة الاعمار، وما زالت قائمة حتى يومنا هذا، فيحدد القاضي العرفي عدد الإبل في حكمه ويقوم بتثمينها وتسليم قيمتها لمن صدر له الحكم قائلا: «غلام مكتوف وأربعين وقوف» وهذا يعني احضار الجاني مقيداً لقتله او العفو عنه وأخذ الدية المكونة من اربعين من الإبل.
ليس في الدم مقايضة
المتنازل عن حقه في القضاء العرفي لا يحق له ان يطالب الآخر بالتنازل، فاذا حدثت مشاجرة بين طرفين وتنازل المجني عليه لصالح الجاني، وتكرر الامر فليس من حق من تنازل في المرة الاولى ان يطالب الآخر بالتنازل له نظير تنازله السابق «فالدم ما فيه مقايضة».
اما العقوبات المشهورة التي يأخذ بها القضاء العرفي، ففي حالات فقء العين يغرم الجاني بربع دية، ولكل من بتر الاصبع وقطع الاذن ربع دية (الدية مائة جمل)، ولقطع اليد أو بتر الرجل نصف دية.
ويرجع التشريع الى قصة اختلف فيها قضاة «مناقع الدم» الاوائل في قص الاعضاء فأحضروا ثلاثة خيول لثلاثة رجال احدهم بترت ساقه والثاني بترت يده والثالث فقئت عينه، وطلبوا منهم اعتلاء ظهور الخيل لنجدة مستغيث، فكان اول من ركب فرسه مفقوء العين وتعثر مبتور اليد والرجل عن الركوب.
ومن العقوبات المقررة ان ضرب النعال يقص بمائة جنيه، وضرب الكرباج يقص بخمسين جنيها، فاذا كان على الوجه فانه يربع اي يصير اربعة اضعاف، واذا ضرب رجل طفلا تثمن الضربات واذا ضربت المرأة تربع.
قضاة المال والإبل
الزيادي او السورمال هو اللقب الذي يطلق على القاضي المختص بنظر قضايا السرقة، وهو الذي يحكم برد المسروقات الى اصحابها ودفع الغرامة المقررة بعد البحث والتحري وسماع الشهود.
والإبل من اشهر الممتلكات التي تسرق في المجتمع البدوي، وابل كل قبيلة في الصحراء لها علامة تميزها، وغالبا ما تميز الابل بالكي بالنار في الرقبة او الرأس او الصلب، اما الخيل وباقي الدواب فتترك بلا علامة، ومن التعبيرات الشائعة في المجتمع البدوي انه يقول صاحب الإبل المسروقة للسارق «غير اخلي ناقتي تزيد» اي ان حقه سيزيد في حالة ما اذا لم يرد السارق ناقته اليه قبل توجهه الى القاضي الذي سيحكم بردها، اضافة الى غرامة تصل الى اربعين ناقة اخرى فوق ناقته المسروقة، ومن التعبيرات الشائعة ايضا «الناقة غرمت عليل» اي زادت.
لكل قبيلة ثلاثة قضاة زيادي على الاقل، يسند اليهم حل المنازعات التي تنشأ بين ابناء قبيلتهم بخصوص الإبل، اما اذا كان النزاع بين ابناء قبيلتين مختلفتين، فان الحكم ينعقد بقاضيين احدهما من قبيلة المدعي والآخر من قبيلة المدعى عليه.
ويبدأ البدوي عندما يفقد إبله بالبحث في الصحراء الواسعة بين قبيلته والقبائل الاخرى، وعندما يحدد من سرقها او استولى عليها يقوم بارسال بدوة للسارق، وهي وفد يضم خمسة رجال يطلبون من السارق الجلوس امام القاضي الزيادي المختص، وهذه الخطوة اشبه ما تكون بالانذار او اعلان صحيفة الدعوى في القضاء المدني. ويطلب الرجال الخمسة من المدعى عليه تسمية ثلاثة قضاة زيادي يحكمون في الواقعة.
ويوضح الزيادي الشيخ سويلم ابو كبريت من جماعة ابو كبريت من قبيلة السواركة انه من المتعارف عليه ان القبائل التي بينها حلف ترفع خصومتها في مشاكل الإبل للحسيب اولا الذي يبذل قصارى جهده لرد الإبل المنهوبة ويطلب من الناهب او السارق الجلوس امام الزيادي الذي تكون احكامه شديدة في هذه الحالة التي تأتيه عن طريق «قلد» فيكون للحسيب دور اكبر فيها، اذ يحكم برد الإبل ويحدد الغرامة وتسمى «السواقة» وكانت تقدر منذ مائة عام بجنيهين للجمل، ولا ترفع مثل هذه القضايا للزيادي وانما يكتفى بحكم الحسيب.
قصاص الأثر آخذ البصمة
قصاص الاثر من الشخصيات المعاونة للقاضي العرفي، يبدأ عمله في قضايا السرقة والنهب بعد الواقعة مباشرة، فهو يعتمد على تتبع الخطوات من مكان الجريمة لتحديد اتجاه صاحب الاثر على الرمال، بينما ينقطع عمله على الطرق الاسفلتية التي لا تظهر عليها آثار الخطو، وقد تعتمد عليه بعض الجهات الرسمية في وزارتي الداخلية والدفاع، خصوصا في المناطق الحدودية.
تعتمد عملية قص الاثر على الموهبة الفطرية، وقد يكتسبها صاحبها من التجارب وعادات الآباء والاجداد، ومن اشهر قصاص الاثر في سيناء الشيخ جريبيع حد المبشع الشيخ عياد عواد جريبيع الذي اشتهر بقص الاثر ثم تحول الى مبشع.
محمد علي
منقول من جريدة القبس الكويتية تاريخ 9 ربيع الثاني 1427ه الأحد 7 مايو 2006
تعليقات
إرسال تعليق